أكد الدكتور مصطفى سواق، مدير شبكة الجزيرة الإعلامية بالوكالة، أن الوظيفة الأساسية للإعلام المهني هي متابعة الأحداث ونقلها للناس، بنزاهة وتجرد، من دون تشويه ولا تزييف، من دون مبالغة ولا تقصير. ولأن المشهد يختلف باختلاف المنظور أو وجهة النظر، فإن على الإعلامي المهني أن يقدم مشهد الحدث من مختلف الزوايا أو وجهات النظر، أو أن يكون على الأقل أمينًا في تحديد وجهة نظره لجمهوره حتى لا يخدعهم ولا يوهمهم بموضوعية غائبة. وأضاف أن "الإعلام المهني، وعكس ما يدعيه البعض، ليس صانعًا للأحداث، بل يقوم بإبرازها حتى تصبح، بقوة التغطية وزخمها ونشرها، ضمن أولويات اهتمامات الرأي العام".

 
وأوضح سواق، خلال كلمته في حفل العشاء الذي نظَّمه منتدى الجزيرة الثاني عشر في نهاية أعمال يومه الأول، 28 أبريل/نيسان 2018، بالدوحة، أن الإعلام يكون صانعًا للأحداث أو مسهمًا في صناعتها، عندما يلفق ويزور، أو ينقل التلفيق والتزوير. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى، وأبرز من أن تحتاج إلى توضيح، ومنها قرصنة موقع وكالة الأنباء القطرية، والتي استُعملت ذريعة لحصار قطر، وهي دليل على صناعة الإعلام للحدث، وبالتالي مثال على تزوير التاريخ. وتساءل: هل يمكن منهجيًّا/علميًّا أن نسمي أنواع التزوير والتلفيق والكذب والتضليل الإعلامي ونحو ذلك، هل يمكن تسميتها إعلامًا؟ "قد يكون ذلك صحيحًا، بحسب رأي مدير شبكة الجزيرة الإعلامية بالوكالة، من حيث الاستعمال اللغوي، ولكنه حتمًا ليس صحيحًا من حيث الاصطلاح المهني. إن المصطلح الصحيح لمثل ذلك الإعلام هو "الدعاية/البروباغندا" وهي صناعة تعمل لمصلحة جهات محددة، معروفة عادة لدى الناس؛ فالمواطن ليس غبيًّا، حتى لو تغابى رهبة أو رغبة، خوفًا أو طمعًا". 

 
 وأضاف سواق: إذا كان الإعلام، المُزَوِّر، بهذا المعنى صانعًا للأحداث، فهل هو صانع للأزمات؟ ما دوره في اصْطِنَاع الأزمات وإنشائها عبر اختلاق الأحداث وفَبْرَكَة الوقائع؟، كما بيَّن عالم الاجتماع الفرنسي، جون بودريارد، وما أسماه بـ"فوق-الواقع"، أو "اصطناع الواقع"، الذي تهيمن فيه الأحداث الـمُفَبْرَكَة والمصنوعة بهدف إنشاء سرديات بديلة لا أصل لها في الواقع المحسوس.

 
وقال: إن هذا الإطار النظري يجد تطبيقه العملي في اصطناع بعض وسائل الإعلام للواقع؛ "فالأحداث والوقائع التي تعيشها منطقتنا العربية، خاصة في منطقة الخليج، تكشف عن الدور التزييفي الذي أُوكِلَ للإعلام في اصطناع الأزمة الخليجية مثلًا، بالمعنى الذي تحدَّث عنه بودريارد". فالأزمة الخليجية بدأت إعلاميًّا عبر اختراق وكالة الأنباء القطرية، فجر يوم الأربعاء 24 مايو/أيار 2017، والتي شكَّلت المسرح العملياتي الأول للأزمة، من خلال بثِّ بيانٍ مُفَبْرَكٍ مَنْسُوبٍ لأمير قطر، برَّرت به دول الحصار قرارها المفاجيء ومطالبها التي كان من بينها إغلاق الجزيرة، المؤسسة الإعلامية المهنية التي ترفض الفبركة والتزوير والتي تزعج مهنيتها سلطات دول الحصار.  

 
وأكد سواق أن الأزمةَ الخليجيةَ نفسَها كاشفةٌ لخطورة دور الإعلام، وبالتحديد إعلام دول الحصار، في اصْطِنَاعِ الوقائع وفَبْرَكَةِ التصريحات والأخبار والترويج لها بهدف إنشاء واقعٍ سياسيٍّ وهميٍّ، أو واقعٍ سياسيٍّ مرغوبٍ لدى المستفيد من الأزمة، يستصحب أُطُرًا وإجراءاتٍ سياسيةً لإدارة متغيراته ومساراته المتوقعة. وفي هذه الحالة يصبح دور إعلام دول الحصار هو دور منتج الأيديولوجيا الذي يحجب الواقع المحسوس والملموس ويُبرز "فوق-الواقع" ويُسوِّقه عبر مختلف المنصات. فالقائم بالدعاية يسعى، عبر ما يملك من وسائل إعلام، إلى تقديم هذا الواقع بالشكل الذي يريده لخدمة أجنداته السياسية. هكذا يزوَّر التاريخ، وهكذا يصبح "هذا الإعلام المزعوم" أكبر مزوِّر للتاريخ. 

 
وبيَّن سواق أن الواقع الوهمي الذي خلقه الإعلام المزور يصبح ترسانة للدعاية والحرب الإعلامية التي تنتهك كل تقاليد الممارسة المهنية وقيمها خدمةً لأجندة صانع القرار السياسي في خلق مواضعاتٍ سياسيةٍ جديدةٍ والتحكم في الرأي العام، وبذلك تُسهم هذه الترسانة الدعائية في تفجير الأزمات السياسية؛ "ومن ثم يتخلى مثل هذا الإعلام الدعائي، وما أكثره في العالم، خاصة في عالمنا العربي المعاصر، عن دوره المهني/التنويري ويسقط في مستنقع الدعاية الهدَّامة ويفقد مصداقيته، بعد أن يكون فَقَدَ استقلاليته وحريته ومهنيته".

 
وفي سياق حديثه عن دور الجزيرة في تغطية الأزمة الخليجية، أوضح الدكتور مصطفى سواق، أن الجزيرة وجدت نفسها في دائرة الاستهداف، كمشروع إعلامي تنويري استطاع أن يُرسِّخ عبر أكثر من عقدين من العمل الإعلامي الجاد ممارسة إعلامية مهنية غير مسبوقة (رسالةً وأداءً) في بيئة عربية لم تعرف تقاليد الإعلام الذي يستجيب لاحتياجات الإنسان المعرفية والثقافية والحقوقية. فقد ظل هذا الإعلام يُمَثِّل الصوت الأيديولوجي الدعائي للسلطة، ناطقًا باسمها وبلسانها، تُوجِّهُه أينما أرادت، بل ويتصدر دعوات المطالبة بمحاصرة الإعلام المستقل المهني وإخراس صوته. وأضاف أن الدعوة إلى "إغلاق الجزيرة" تستهدف دورها التنويري والريادي في إيصال الحقائق للإنسان العربي وتعميق معرفته بالواقع ومتغيراته، المعرفة التي تقوم على الخبر الصحيح والسياق الشامل والتحليل العميق والرأي والرأي الآخر. ذلك ما فعلته الجزيرة منذ إطلاقها، في محطات مختلفة مفصلية في تاريخ المنطقة خاصة، وسوف تستمر في أدائه مستقبلًا. 

 
وذكر أن الجزيرة حاولت في تغطياتها أن تقدم لجمهورها تطورات فصول الأزمة -ضمن النموذج التنويري لفلسفتها الإخبارية- عبر مسارين: أولهما: "الإطار الحَدَثِي" الذي يتابع الأزمة من خلال رصد الأحداث والوقائع والفاعلين المشاركين فيها محليًا وإقليميًّا ودوليًّا، مع الإصرار على الأحداث كما جرت في الواقع. ما يميز هذه المعرفة الحَدَثِيَّة هو الحقائق والمعلومات الـمُؤَسِّستين لخطاب الجزيرة باعتبار البعد الأخلاقي لهذه المعرفة الذي يجعلها تلتزم بقول الحقيقة. إنه التزام يتجسد في سياسية تحريرية مُؤَصَّلَة في كتاب المعايير التحريرية الذي يمثِّل عصارة الخبرة الإعلامية للجزيرة ومرجعًا في أداء صحافييها. أما المسار الثاني، فهو الإطار المعرفي للأزمة الذي يُقدِّم تحليلًا معرفيًّا لقضاياها. إنه مستوى آخر من التغطية الإعلامية التي تفسح فيها الجزيرة مجالًا واسعًا للتحليل العميق وللرأي والرأي الآخر، سعيًا لفهم جوهر المشكلة وتحديد أسبابها والأبعاد الأخلاقية التي تطرحها والحلول المقترحة لتسويتها.

 
وقال سواق: مقابل هذا العمل المهني للجزيرة، "تابعنا تهافت إعلام دول الحصار ولجوءه إلى الفبركة والدعاية، بل والخوض في الأعراض، وأصبح القذف والسب والشتم معايير مُوَجِّهةً وراسمةً لسياسته". وأضاف أن العمل المهني الذي تؤديه الجزيرة، كغيرها من المؤسسات الإعلامية المهنية، لا يقوم بمجرد التوثيق الصحيح للأحداث، باعتبار ذلك يمثل المادة الأولية الأساسية لكتابة التاريخ الصحيح، بل يوثق أيضًا انتصارات الإنسان في مواجهة سياسات الاستبداد ومحاولات سحق كرامته وإنسانيته. كما يوثق هذا العمل المهني الرصين الجرائم التي تستهدف هذا الإنسان، "وهو توثيق نرجو أن لا يكون مجرد مادة أولية لكتابة التاريخ، بل أن يكون ضمن الأدلة القوية التي تستعملها المحاكم يومًا ما لمعاقبة المجرمين وإنصاف الضحايا".

 
وبذلك يكون الإعلام المهني الجاد، في نظر سواق، أداة لكتابة تاريخ صحيح تنصف محكمته الضحايا، بتسجيل قصتهم الحقيقية، حتى لو لم تتمكن المحاكم العدلية من إنصافهم، رغم وجود الأدلة والشهود. "وكما أن الإعلام يمكن أن يكون أكبر عامل في توثيق التاريخ الصحيح يمكنه أيضًا أن يكون أكبر مزور للتاريخ، وعلى الإعلامي أن يختار موقعه بين الطرفين".

 
وشدَّد مدير شبكة الجزيرة الإعلامية بالوكالة على أهمية حرية الإعلام واستقلاله عن أية هيمنة سياسية أو تجارية أو غيرها. فالتزييف الإعلامي، الذي قد يؤدي إلى تزييف التاريخ، يحدث عادة بسبب الاستبداد وقمع الإعلام المهني المستقل وإرهاب الأصوات الحرة، أو بسبب الحاجة، نتيجة الفقر ونحوه، أو نتيجة الطمع. وخلص سواق إلى أن ممارسة الإعلام المهني مهمة عسيرة، بل تكاد تكون مستحيلة، من دون بيئة آمنة ماديًّا ومعنويًّا، يشعر فيها الإعلامي بالأمن ولا يخشى على سلامته وسلامة أهله؛ "لهذا أدعو مجددًا كل زملاء المهنة ومحبيها ومسانديها إلى مضاعفة الجهود لحماية الإعلاميين من همجية المستبدين القامعين، ولتوسيع فضاء الحرية؛ فلا إعلام من دون حرية، ولا حرية من دون أمن".