
أجمع المشاركون في ندوة الأبعاد الاقتصادية للصراعات على أن البُعد الاقتصادي يُعدُّ المحرك الأساسي لجميع الصراعات الحالية في منطقة الشرق الأوسط وخصوصًا في دول الربيع العربي، مؤكدين في الوقت ذاته على أن هذا البُعد يحظى بمكانة متأخرة على أجندة النُّخب الحاكمة حاليًا.
وقد حظي البُعد الاقتصادي بمكانة متميزة في اليوم الأول لمنتدى الجزيرة التاسع "الصراع والتغيير في العالم العربي" الذي تحتضنه الدوحة خلال الفترة 4-6 مايو/أيار الجاري؛ إذ سُلِّطت الأضواء على الجلسة الخاصة به في نهاية اليوم.
شارك في الندوة السيدة إلينا يانتشوفيتشينا، خبيرة اقتصاد بمكتب رئيس الخبراء الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، البنك الدولي، وعديل مالك، زميل بمنحة غلوب متخصص في اقتصاديات المجتمعات المسلمة بمركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، وأحمد ولد داداه، رئيس حزب تكتل القوى الديمقراطية المعارض بموريتانيا، وإلياس الفخفاخ، وزير الاقتصاد التونسي السابق، وكمال فيلد، مدير البحوث في المعهد العراقي للإصلاح الاقتصادي.
ومن جهتها، أوضحت السيدة إلينا يانتشوفيتشينا، أن التكلفة الاقتصادية التي تُدفع حاليًا في منطقة الشرق الأوسط باهظة، مشيرة إلى أن أبرز الخطوات التي يجب البدء فيها مباشرة في دول الربيع العربي هي إحداث التحولات الاقتصادية، مشيرة إلى أن الصراعات التي تدور رحاها حاليًا قد أوقفت فعليًّا عملية الإصلاح الاقتصادي، ضاربة المثل لذلك بما يحدث في سوريا وليبيا، مضيفة: "فحال العديد من الدول أصبح أسوأ من ذي قبل، وهناك أمثلة للدمار الإنساني الذي تعيشه شعوب عدَّة في المنطقة".
وألمحت إلى قضية اللاجئين والنازحين التي أضحت ظاهرة في دول الربيع العربي نتيجة الصراع الدائر حاليًا على سبيل المثال في سوريا، مشيرة إلى خسارة سوريا لما يفوق 57 مليار دولار بسبب الصراع الدائر.
ولفتت إلى معاناة دول جوار سوريا التي تحاول استيعاب اللاجئين السوريين وتوفير الحد الأدنى من الاحتياجات الإنسانية لهم، موضحة أن ذلك قد وضع حدًّا للنمو في المنطقة نتيجة الصراعات الدائرة.
وأكدت أهمية البحث في وسط ذلك عن طرق للتحول الاقتصادي من خلال الإصلاح، مشيرة إلى أن الاصلاح الاقتصادي يتجلَّى في التخلص من المعوقات بشكل منظَّم.
ونبَّهت إلى أن البطالة أضحت أبرز مظاهر الصراع الحالي في دول الربيع العربي، وكذلك التشريعات التي أثَّرت سلبًا على ميزانية تلك الدول والقطاع الخاص الذي يوفِّر وظائف ليست ذات جودة عالية، مؤكدة أن تلك الأمور تعتبر من مغذِّيات الصراع التي من أجلها يتم حشد الجماهير، مضيفة: "وهذا يُعدُّ من أبرز أسباب الصراعات الأهلية الحالية في منطقة الشرق الأوسط".
وذكرت أن دول الربيع العربي تمر بعمليات تحول أوَّلي، مشيرة إلى أن مخاطر الصراع في تزايد من خلال الاستقطاب كما الحال في سوريا والعراق حيث يحارِب العديد من الأطراف لأغراض ربحية.
ونوَّهت لأن الاستقرار يُعدُّ أبرز ركائز التنمية الاقتصادية، موضحة أهمية العمل على إيجاد الحوافز الاقتصادية، مبيِّنة في السياق ذاته أن البدء في إنهاء الصراعات والإصلاح من خلال وضع عقود اجتماعية اقتصادية عادلة وإشراك الشباب في الحياة السياسية والاجتماعية يعد أبرز الحلول المقترحة.
وشدَّدت على أن قضايا الأمن والتكامل تعد من الركائز الأساسية للإصلاح، ضاربة مثلًا لذلك بدول أوروبا الشرقية التي سعت إلى وضع معايير حوكمة جديدة مما حقق لها التطور السريع.
وتابعت إلينا قائلة: "وهذا ليس متوفرًا حاليًا في منطقة الشرق الأوسط؛ حيث لا يوجد نموذج حوكمة حتى على المستوى الوطني، فعلى سبيل المثال تونس التي تُعدُّ أفضل مثال حيث تملك فرصة لتحقيق نمو اقتصادي تتحول من خلاله إلى الدولة المزدهرة، لكن يجب تحمُّل الألم الاقتصادي الناجم عن الإصلاح والتحول".
إحداث التغيير
ومن جهته، أوضح السيد إلياس الفخفاخ أن ثورات الربيع العربي اندلعت من أجل إحداث التغيير، مشيرًا إلى أن تونس تخطت مرحلة الانتقال السياسي والديمقراطي، مضيفًا: "على الرغم من وجود صراعات عنيفة، إلا أن الصراع، من وجهة نظري، يؤدي في النهاية إلى إيجاد حلول ثم إحداث التوافق على مبدأ الحوار".
وأكَّد الفخفاخ أن تونس حققت مكتسبات عديدة من شأنها حفظ المسار الديمقراطي وبقاء علاقة الحاكم والمحكوم في وضعها الطبيعي، مشدِّدًا على أن التحدي الاقتصادي يبقى هو الأبرز.
وقال: "إن البطالة والتهميش والاحتكار الذي شهدته تونس خلال 20 عامًا مضت، إضافة إلى أن 25% من أرباح الاقتصاد التونسي تحظى بها العائلة الحاكمة والقطاع الخاص، وهذه التراكمات هي التي تسببت في اندلاع الثورة في تونس".
ونبَّه إلى أن المنتفعين من الاقتصاد التونسي في النظام السابق ما زالوا موجودين، موضحًا أن سبب ذلك كان في التشريعات التي تحميهم، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أن الصراع الدائر حاليًا في تونس يدور بين هذه الفئة وأغلبية الشعب.
وأشار إلى أن تفاقم الأزمة الاقتصادية في تونس مرجعها إلى التوزيع غير العادل والصعوبات التي اكتنفت المرحلة الانتقالية وتزامنها مع الأزمة الأوروبية التي تعد الشريك الأبرز لتونس، مضيفًا في السياق ذاته: "وفاقم من الوضع أن منوال التنمية القديم لا يزال مستخدمًا".
وبيَّن أن الهدف الرئيسي من التغيير هو إحداث نقلة في حياة المجتمع وأن يكون الوضع الاقتصادي أفضل من خلال القضاء على البطالة، مشيرًا إلى أن هذا الأمر لم يتحقق ولكن الطموح يحدو المجتمع التونسي إلى تخطي هذه المرحلة، مشددًا على أن الصراع مع الدولة العميقة في تونس حاليًا لن يكون سهلًا سواء على المستوى الإداري أو مع المتنفِّذين في جميع القطاعات خصوصًا الاقتصادية منها.
وأوضح الفخفاخ أن محاربة قواعد الفساد والمحسوبية والسعي إلى الثراء السريع تجب أن تتقدم المشهد، مشدِّدًا على أهمية التحلي بالشجاعة لإجراء إصلاحات هيكلية لإصلاح الحوكمة لجلب الاستثمار إلى تونس، مشيرًا إلى أن مدة 4 سنوات قد تكون كافية لوضع برنامج إصلاح هيكلي كامل.
تجلِّيات الربيع العربي
وبدوره أشار السيد أحمد ولد داداه، إلى أن العالم انبهر بهبة الربيع العربي التي طال انتظارها نتيجة لطول أمد التخلف الذي تعيشه المنطقة على الرغم مما حباها به الله من ثروات ومقدَّرات في مقدمتها النفط والغاز.
وتابع قائلًا: "ومع ذلك كله لم نشهد في الوطن العربي أي ازدهار مع وجود هذا التنوع، وذلك نتيجة أن الاقتصادات العربية تعتمد على النظام الريعي المرتكز على عوائد النفط والغاز ما جعلها رهينة لتقلبات السوق".
وبيَّن أن وجه الربيع العربي تغيَّر في بعض الدول، مُرجعًا ذلك إلى وجود من يحاربه من خلال إشعال الحروب الأهلية والنعرات الطائفية، مؤكدًا أن تلك المحاولات مصيرها الفشل، ومشدِّدًا على أن الشعب يملك الوعي لتخطي تلك المرحلة.
وبدوره بيَّن كمال فيلد أن العراق حظي بالديمقراطية ولكنه خسر سيادة القانون، مشيرًا إلى أن التجربة العراقية أفرطت في المشاركة السياسية، فضلًا عن سعي اللاعبين السياسيين إلى تحقيق مكاسب محلية على حساب الأهداف الوطنية.
ولفت إلى أن أداء الحكومة العراقية ضعيف، وأن هذا الضعف كان السبب في انقسام الشارع العراقي بين من يتهم الحكومة بالفساد من جهة ومن يتهمها بالطائفية من جهة أخرى.
وذكر أن العراق حقَّق تقدمًا يسيرًا في جوانب اقتصادية محدودة، ولكن في الجانب السياسي فالعراق متقدم على العديد من دول منطقة الشرق الأوسط بما فيها تركيا وإيران وغيرهما.
وأضاف: "ولكن ضعف أداء الدولة انعكس في توفر الكهرباء لمدة 11 ساعة يوميًّا فقط، وحصول 85% فقط من الشعب العراقي على الماء، وأضحى 32% فقط من الشعب يمتلكون صرفًا صحيًّا، إضافة إلى نقص 8800 مدرسة".
ومن جانبه، اعتبر عديل مالك أن الفراغ الحكومي تسبَّب في ظهور العنف بشكل واسع في دول الربيع العربي، مشيرًا إلى أن العنف له جانب اقتصادي، وأن العنف دائمًا ما يحدث كبديل لفقدان السلطة الحاكمة لقوتها، موضحًا أن العنف ربما يكون الفائز على المدى القصير.
وشدَّد على أن العنف موجود في المنطقة ولكن غياب السلطة فاقم من الوضع، إضافة إلى التدخلات الأجنبية، ضاربًا مثلًا لذلك بما يحدث في سوريا وليبيا.
وأشار إلى أن المنطقة شهدت موجات متتالية من الإصلاح منذ 1952، مسقِطًا ذلك على التجربة المصرية حيث قام عبد الناصر بإصلاحات هدفها إقامة الدولة، ثم تلاه السادات ومبارك لتحقيق إصلاح اقتصادي عبر الانفتاح الاقتصادي مع تعزيز الحكم المركزي.
وأكَّد أن تغيير المسارات التجارية السائدة في المنطقة حاليًا والسعي إلى التكامل الاقتصادي يعدان محركًا رئيسيًّا للتحول الاقتصادي، منبِّهًا إلى أن التحرر الاقتصادي لن يتأتَّى من دون إتاحة فرص الاستثمار وفتح الأسواق.
وأشار إلى أن القطاع الخاص في الدول العربية لا يمكنه التنافس مع القطاع العام الذي تدعمه الدولة، مشيرًا إلى أن الدولة التي تعتمد على القطاع العام لا تستطيع المنافسة في الأسواق العالمية.