في نهاية اليوم الأول من أعمال منتدى الجزيرة، الذي يناقش في نسخته الحادية عشرة "أزمة الدولة ومستقبل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط"، بالعاصمة القطرية، الدوحة، 15-16 أبريل/نيسان 2017، آثر الدكتور مصطفى سواق، المدير العام لشبكة الجزيرة الإعلامية بالوكالة، أن يتحدث، في كلمة خاصة بحفل عشاء لضيوف المنتدى، عن بعض المحطات في حياته التي لها علاقة وثيقة بموضوع المنتدى، وهو ما لا يفعله غالبًا، مبرزًا بعض مظاهر أزمة الدولة الحديثة في الجزائر بعد الاستقلال. وفي هذا السياق ذكَّر بـ"الجريمة الشهيرة"" التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في 8 مايو/أيار 1945، والتي راح ضحيتها 45 ألف شهيد، بعد أن نظَّم الجزائريون مظاهرة كبيرة بمناسبة انتهاء الحرب العالمية الثانية واحتفاءء باندحار النازية ومطالبة الفرنسيين بالوفاء بوعودهم بشأن الحرية والاستقلال، لكن السلطة الاستعمارية الفرنسية قابلت المتظاهرين الجزائريين بالتنكيل والتقتيل.
واستغرب الدكتور سواق مما يردده البعض بشأن الحنين إلى مرحلة الاستعمار بذريعة أن ما عانوه في ظل الدولة الوطنية تجاوز ما عاناه آباؤهم في ظل دولة الاستعمار، لكنَّ من لا يعرفون الاستعمار يتصورون أنه خير من الدولة الحديثة، وهو طبعًا موقف خاطئ؛ لأن معرفة الاستعمار حقيقةً تجعل الإنسان ينفر من عودته ولا يحنُّ إليه إطلاقًا.
وفي أواخر أيام الثروة الجزائرية، أشار الدكتور سواق إلى أنه كان يحلم كما يحلم جميع الجزائريين بل جميع العرب بمستقبل زاهر يعيش فيه الإنسان حرًّا كريمًا. وكان هذا الحلم يتجسد في الطموح لوجود دولة وطنية توفر للإنسان العزة ولا تحرمه من الحرية ولا من الكرامة والعدالة، فالعدل أساس الحكم. ثم جاء الاستقلال واحتفل الجميع بذلك، وتأسست الدولة الجزائرية الحديثة، وهناك من ينتقد ولا زال ينتقد ما حدث يومها. وأوضح أن الدولة الجزائرية التي تأسست في ذلك الوقت كانت دولة بالمعنى المجازي، أي محاولةة لتأسيس دولة ومع ذلك فقد أُنْجِزَت أشياء كثيرة في ظل تلك الدولة. واعتبر أن أحد منجزات تلك الدولة هو انتشار التعليم وسط جيل الاستقلال، ومن المعلوم أن فرنسا تركتت الجزائر وفيها نسبة 5% فقط ممن يعرفون القراءة والكتابة، كما أن عدد الطلاب الجامعيين لم يكن يتجاوز 500 طالب. إذن، فأحد منجزات الدولة الجزائرية الحديثة أن نسبةة التمدرس في الجزائر وصلت تقريبًا 100%، كما قامت دولة الاستقلال بسياسة صحية متميزة وحاولت النهوض بالبلد معتمدة على سياسة تنموية. ويبقى الحلم، بالنسبة لدكتورر سواق ولجيله، دولة يتمتع فيها الجميع بالكرامة والعدالة وغير ذلك من الأمور التي أشير إليها في الجلسات الحوارية بمنتدى الجزيرة هذا العام.
ورأى المدير العام لشبكة الجزيرة الإعلامية بالوكالة أن ما ذهب إليه بعض المشاركين في جلسات المنتدى، بشأن الدولة التي أصبحت متسلطة بدل أن تكون خادمًا للشعب، أمر صحيح؛ ففي أوائل سبعينات القرن العشرين خرج مئات من الطلاب الجزائريين مطالبين بالتعريب، وكانوا منظَّمين وسلميين؛ يرفعون شعارات التعريب وذلك بعد 7 سنواتت كاملة من جلاء الفرنسيين الذين رحلوا ولكن تركوا لغتهم الفرنسية في الإدارة والتعليم. فقمعت الشرطة المتظاهرين السلميين بشكل لا يُتصور، "وهنا نتساءل: هل هذه الدولة جاءت لخدمة المجتمع؟ الواقع أن هذه التجربة القمعية جعلتنا ندرك أن الأوهام والأحلام سقطت، وقد تزامن هذا مع سنوات نكبة يونيو/حزيران 1967 التي عرفتها الأمة العربية،، وقبل ذلك انفسخت الوحدة بين مصر وسوريا وشهد العرب فشل حلمهم وتطلعهم. منذ تلك الفترة بدأ الحس العروبي يتراجع في بلد مثل الجزائر الذي كان غامرًا بالعروبة مفعمًا بها. هل يمكن أن نقول: إن الدولة خانت المواطن؟ فعلًا وقع شيء من ذلك لكن تلك الدولة كانت لها منجزات حقيقية لا ينبغي تناسيها".
وأشار الدكتور سواق إلى فترة حكم الرئيس بومدين؛ حيث كان الجميع صابرًا على حكمه راضيًّا به، معتقدين أن الدولة ستستمر في خططها التنموية قابلين أن يتنازلوا عن جزء من حريتهم في سبيل بناء الوطن. بعد وفاة بومدين تقرر اختيار رئيس جديد لكن اختياره تم في غرفة مغلقة يتحكم فيها كبار ضباط الجيش والمخابرات وربما بعض الساسة. وكانن الجميع يحلم بفرصة الحصول على الحرية والمشاركة وأن الممارسة السياسية ستعرف استقلال البرلمان والسلطة التنفيذية والقضائية، لكن تبين أن هذه السلطات كانت كلها تنحصر في سلطة واحدة، لم يكن الجزائريون يعرفونها؛ لأن الفاعلين الحقيقيين كانوا مخفيين؛ وهذا ما عرفه الجميع بعد الانقلاب على الانتخابات في التسعينات.
وأكد أن ممارسة الدولة الجزائرية وغيرها من الدول العربية للحكم كانت تجسد فكرة الزعيم أو النظام الذي يعتقد أنه القادر على قيادة البلد دون غيره، فتلاشت فكرة الحرية وفكرة المواطن الذي يحق له أن يختار ممثليه. وأضاف الدكتور سواق: "إن ما تحدث به بعض المشاركين من مظاهر أزمة الدولة الوطنية إنما هو واقع عشناه بشكل حقيقي؛ فجيليي تحطمت أحلامه، لكن يجب أن نستمر في الحلم. ولعل الربيع العربي أعاد ذلك الحلم وتلك الطموحات، وحتى مع الثورة المضادة التي دمرت هذا الربيع العربي فإن الحراكك الشعبي العربي يدل على أن هناك قوة لا تُقهر، قد تبقى كامنة لكنها لن تنتهي".
وفي سياق علاقة الإعلام بإرساء الحكم الديمقراطي، أوضح الدكتور سواق أن حرية الفكر والإعلام هي أم الحريات، وهذا لا ينطبق على الإعلام المأجور بل الإعلام الحر والمهني الذي يعتبر أن الحقيقة هي الهدف الأسمى. ولعل قياس المؤشرات الخاصة بصلاحية الدولة إنما يكمن في مدى احترامها لحرية الرأي وحرية التفكير وحرية الإعلام. إن الفساد الذي ينخرر أغلب الأنظمة العربية، إن لم نقل: كلها، لا يمكن أن يُقاوَم إلا بإعلام حر قادر على أن يكشف للناس تفاصيل هذا الفساد. ولأن الجهات الحاكمة هي التي تدير هذا الفساد فلذلكك تمنع الحرية حتى لا تظهر ممارساتها للعلن.