عقدت الجلسة الأولى ضمن أعمال منتدى الجزيرة العاشر بعنوان "التدافع الإقليمي وتداعياته الطائفية والسياسية والجيوسياسية"، تحدث خلالها نخبة من المفكرين والسياسيين، هم أحمد طعمة رئيس الحكومة السورية المؤقتة، وظافر العاني عضو البرلمان العراقي، وعبد العزيز بن صقر رئيس مركز الخليج للأبحاث بالممكلة العربية السعودية.
طعمة: مخططات إقليمية ودولية تعبث بالملف السوري
وفي كلمته، أكد أحمد طعمة رئيس الحكومة السورية المؤقتة، أن اختيار كلمة "تدافع" عنوانًا للمنتدى كان موفَّقًا من المنظمين للفعالية؛ إذ إن لها دلالات كبيرة ومهمة؛ لأنها تجمع الأضداد، استنادًا إلى الآية الكريمة "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض".
وقال: إننا في سوريا لم نكن نتخيل أن الملف السوري معقد إلى هذا الحد، مثلما لم نتصور هذا التداعي من قبل الأمم على سورية؛ حيث يرغب كل طرف من الأطراف جر سورية إليه للقضاء عليها.
واعتبر أن هناك مشاريع متعددة تتحكم في الأزمة السورية، لكن هذا لا يعفينا من القول إننا كمعارضة سورية قصرنا في تحديد مشروعنا الوطني، وقال إن الملف السوري يشبه إلى حد كبير ملفات دول عربية أخرى، ويمكن الاستفادة من جميع هذه الدروس.
وتساءل طعمة عن أسباب تأخر الحل في سورية وتعقيداته إلى هذه الدرجة، حتى بعد دخول الروس إلى سورية وانسحابهم، وبدء مفاوضات مع النظام، ليجيب بأن أسباب هذا التأخر تعود بالأساس إلى أنه لا يوجد بديل جاهز يمكنه سد فراغ النظام المجرم، في ظل جسامة التضحيات التي قُدِّمت من قبل الشعب السوري بكافة أبنائه، لافتًا إلى أن هناك مخططات إقليمية ودولية تعبث بالملف السوري، لكن في الوقت نفسه، تقع علينا المسؤولية، ويجب الكف عن لوم الآخر.
وأشار إلى أن السوريين منذ اندلاع الثورة قبل خمس سنوات لم يناقشوا أبدًا مستقبل سورية، سواء تعلق الأمر بالنظام أو المعارضة أو الفصائل المتشددة ونصف المتشددة، والتي لم يكن يهمها سوى كيفية تطبيق الشريعة الإسلامية على طريقتها، ووفق فهمها، فمنذ اندلاع الثورة لم يناقش بالدقة شكل الدولة المراد تحقيقها والمبنية على التعددية، وهذا أمر يعود أساسًا إلى خمسين عامًا من القمع وممارسات النظام، على الرغم من بعض المحاولات والإعلانات السياسية التي كانت تصدر بين الفينة والأخرى، والتي فشلت في نقل شعارات الدولة الحديثة إلى عموم السوريين.
ووجَّه طعمة اللوم إلى الأوساط الإسلامية، وقال إنها كانت بعيدة عن بلورة تصور لشكل الدولة والتوازنات السياسية، ولم يستثن المعارضة الخارجية، وقال إنها لم تكن تعي تمام الوعي واقع الحال في الداخل السوري، مشيرًا إلى أن النظام كان يخشى ترويج مثل هذه الأفكار، فعمل على إفشال جميع المحاولات التي تصل إلى وجدان الشعب وحاربها من منطلق أن المجتمع الدولي لن يقبل بتغييره وإسقاطه متى استعصى ظهور بديل مقبول عنه دوليًا.
واعترف طعمة بأن الديمقراطية هي ما يمكن أن ينقذنا جميعًا كسوريين، على الرغم من وجهة نظر المجتمع الدولي بأن تطبيق الشريعة الإسلامية يتعارض مع الديمقراطية.
وقال رئيس الحكومة السورية المؤقتة: إن مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية ستيفان دي ميستورا، طرح قبل أيام على المعارضة والنظام السوريين معًا عددًا من الأسئلة الحساسة، وليته طرحها علينا سابقًا، فنحن نحتاج أولًا إلى دراسة من نحن؟، وكيف يمكن أن نتقدم إلى الأمام بانفتاح متبادل كبير.
وناشد طعمة شبكة الجزيرة الإعلامية والمثقفين والمفكرين أن يبادروا إلى تبني ملف السجناء والمعتقلين لدى النظام السوري؛ لأنهم يُذبحون في صمت من العالم، وعدم الاكتفاء بتسليط الضوء على أوضاع النازحين والجائعين في المناطق السورية؛ لأن أوضاع السجناء أفظع مما يتصور، قائلًا: سينكشف للعالم بعد أن تضع الحرب أوزراها مدى الظلم والقهر الذي تعرضوا له والجرم الذي ارتكب بحقهم.
العاني: العراق يدفع ثمن انكفاء وغياب مشروع استراتيجي عربي
في كلمته، حاول ظافر العاني عضو البرلمان العراقي تفكيك عنوان الجلسة، والتعقيب على المداخلة السابقة التي أكدت وجود مشاريع إقليمية ودولية تحكم الأوضاع السياسية في المنطقة، وقال إنه فيما يتعلق بالعراق فهو يشكو من عدم وجود مشاريع متحكِّمة فيه، بل هناك مشروع واحد يستفرد بثرواته ومقدراته، وهو المشروع الإيراني، وقال: "لا تصدقوا أن العراق ساحة صراع بين القوى الدولية".
واعتبر العاني أن العراق تستبد به إرادة وحيدة هي إرادة طهران، وحتى الإرادة الأميركية أصبحت تُكيِّف علاقتها بالعراق في انسجام كامل مع إيران، أما بشأن الإرادة العربية فقال: إن العرب غائبون، وحتى إن كانت لديهم مشاريع في العراق العربي والمتعدد، فهي مشاريع سياسية بعيدة التحقق، بل أبعد مما يتصور؛ باعتبار أن الحضور العربي في العراق يكاد لا يُذكر.
وضرب العاني مثلًا بمحاولات عربية خلال الشهور الأخيرة، ومن بينها افتتاح سفارة الممكلة العربية السعودية بعد قطيعة طويلة من الزمن، وكيف هيَّجت تصريحات السفير السعودي الشارعَ العراقي وخروج مظاهرات في مدن عراقية عديدة منددة، وتم استدعاء السفير السعودي لاستفساره عن تصريحاته، وعلت مطالب بإغلاق السفارة وطرد السفير، والأمر نفسه حدث مع سفير دولة الإمارات العربية المتحدة، عندما أدلى بتصريحات تتعلق بالداخل العراقي.
وتساءل العاني: "لماذا تتصرف إيران بمثل هذا كلما تعلق الأمر بأي محاولة عربية تجاه العراق؟"، وقال إن إيران لا تريد شريكًا عربيًا في العراق، وتحارب تبلور أي فكر مؤثر في عروبته، حتى يسهل عليها في مرحلة قادمة قضمه.
ولفت العاني أن إيران حالت دون كتابة هوية العراق العربية في الدستور العراقي، كما واجهت محاولات أخرى تركية كانت تهدف إلى تعزيز العلاقات مع العراق، فتركيا لم تستطع بفعل الصدِّ الإيراني من الدفاع عن مصالحها في العراق، والجميع يتذكر كيف ألَّبت الشارع والحكومة إزاء أي حضور عسكري تركي على أرض العراق، حتى لو كان في شكل مدربين استعانت بهم الحكومة العراقية من قبل لمواجهة التطرف والإرهاب.
وأضاف أنه في العراق تصدر قرارات بمنع السنة من الدخول إلى العاصمة بغداد إلا بكفيل، في الوقت الذي فُتِح فيه الباب أمام حشود من الإيرانيين للدخول إلى العراق، والرسالة واضحة من وراء كل هذا، وهي أن تقول للعرب بأن العراق العربي الذي كان في أذهانكم قد تبخر. ونبه العاني بأنه لا وجود لتدافع دولي في العراق، بل هو تدافع محلي، يحدث بين إرادتين تحاول أولاهما حماية هوية العراق، بينما الأخرى تسعى لطمسها وإلغائها.
واعترف بأن ما يعانيه العراق ويدفع ثمنه اليوم من عروبته ووحدته، هو ثمن الانكفاء العربي والإسلامي، وغياب المشاريع الاستراتيجية، وقال إنه لا يجب على العرب أن يستحيوا من أنهم تخلوا عن العراق في وسط الطريق، وتركوه لذلك الآخر.
وبشأن النظرة الغربية وبالأخص الأميركية لمجمل التطورات في العراق، قال العاني إن واشنطن تعترف اليوم بوضع قائم تعتبره حقيقة، كما تعترف بتفوق إيران الاستراتيجي، وتريد فرض رؤيتها على دول المنطقة بهذا الخصوص، بل الأنكى أنها تدعو هذه الدول إلى ضرورة التفاهم مع إيران والتباحث ومناقشة القضايا والمشاكل العالقة.
وتساءل العاني: "هل فات الأوان على إنقاذ العراق؟" ليجيب أن الوقت لم يفت بعد، ولا تزال فرص انتشاله ممكنة، وهذا دأب السياسيين لإيجاد هذه الفرص وخلقها، مشيرًا إلى أن العراقيين يسعون جميعًا لترسيخ السلم وحماية أهلهم، وهناك فرصة لتشكيل وعي جمعي، وشعور عارم بإمكانية حدوث التغيير.
وخاطب العاني إيران بالقول إن عليها أن تعلم بإمكانية حفظ مصالحها شرط احترام هوية العراق ومقدراته، فالعراق لا يحتاج إلى وصاية من أحد، بل إلى عون غير مشروط. وختم كلمته بأن إيران لن تفلح في مشروعها في العراق، وأن أبناءه ستمكنون من حماية وطنهم، سواء جاء العرب أم لا؟
بن صقر: خطر التجزئة يهدد المنطقة بإنشاء دويلات وكيانات مقسمة
في كلمته، تطرق عبد العزيز بن صقر، رئيس مركز الخليج للأبحاث، لما أسماه "ظاهرة الربيع العربي"، وقال إن موجة الربيع العربي أثارت أربع عناصر ستكون محددًا لمستقبل العالم والشرق الأوسط في المرحلة المقبلة، وتتمثل في:
- مستقبل الأنظمة السياسية الحالية.
- مستقبل الدولة الوطنية أو القطرية.
- مستقبل الدور الخارجي في العالم العربي ( انكماش، توسع، خلق خريطة توازنات جديدة).
- دور جماعات المسلحين من غير الدول.
ظاهرة الربيع العربي
حمل عبد العزيز بن صقر بشكل حاد على موجة التغيير في المجال العربي، وقال إن تجربة تغيير الأنظمة لم تكن موفقة، رغم التضحيات الشعبية التي بُذلت، اللهم في حالات معدودة. واعتبر أن تداعيات الربيع العربي وما خلفته من أزمات داخلية على مستويات عدة، عزَّزت الثقة في الأنظمة التقليدية، خاصة أنظمة دول الخليج، لافتًا إلى أن هناك أنظمة عربية تمكنت من الصمود في وجه "ظاهرة الربيع العربي"، منها الأردن والمغرب والجزائر، لكنها دول تواجه تحديات متعددة، خاصة ما تعلق بالجانب الأمني والاقتصادي. كما استشهد بن صقر بالتجربة التونسية، معتبرًا إياها تجربة وحالة منفردة في تعاطي عدد من الدول مع الربيع العربي، مشيرًا إلى أنه لا يزال من السابق لأوانه الحكم على هذه التجربة سلبًا أو إيجابًا.
مستقبل الدولة الوطنية
اعتبر بن صقر أن خطر التشرذم والتجزئة أصبح مُهدِّدًا لعدد من الدول في المنطقة العربية، وأن الاتجاه الجارف يسير نحو خلق دويلات وكيانات مقسمة، في ظل تزايد نفوذ أصحاب هذه المشاريع، وضَرَب مثالًا بما يجري في اليمن وسورية والسودان الذي بدأت فيه منذ مدة عملية التفكيك.
الدور الخارجي في المنطقة
اعتبر بن صقر أن الدور الخارجي إزاء قضايا الشرق الأوسط يمضي باتجاه الانكماش، واعتماد مبدأ فرض الحد الأدنى من التدخل، وحماية النفس من تداعيات التهديدات الإرهابية التي يعتبر مصدرها الأول "العالم العربي والإسلامي"، وتجنب مزيد من موجات الهجرة غير الشرعية.
وبشأن بقاء المنطقة العربية تحت أعين الدول الغربية لأجل حماية مصادر الطاقة، قال بن صقر "إن تغير الظروف وتحولها في سوق الطاقة الدولي، أدى إلى تراجع نسبي في الاعتناء بهذه المنطقة".
الجماعات المسلحة من غير الدول
وبخصوص أبرز المهددات الداخلية لدول المنطقة، قال بن صقر إنها تتركز أساسًا في تضخم الجماعات المسلحة وتمددها، وارتفاع منسوب الفوضى في هذه الدول، والانفلات الأمني، وهذه كلها عوامل تسهم في إعطاب جهود حمايتها.
وعن مدى علاقة كل هذا بالأجندات الإقليمية، قال رئيس مركز الخليج للأبحاث إن بعض دول المنطقة استثمرت في ميليشيات مسلحة من أجل خلق الفوضى، والتحكم في قرار دول أخرى، وبحكم أن هذه الميليشيات منحت حاضنات اجتماعية، فمن المؤكد أنها ستؤثر على التطورات الداخلية، ملمحًا إلى أن الفترة المقبلة ستعرف استمرار الدور التخريبي بشكل أكبر، وتهديد الدولة الوطنية؛ فضلًا عن توسع طرح خيار الفيدرالية، واعتباره حلًّا لتجاوز جل الصراعات الداخلية.
لكن وفي ظل هذه الأوضاع الشائكة، اعتبر بن صقر أن القوى الغربية ستظل مهتمة بشؤون المنطقة لأسباب أمنية، ولأجل الطاقة، لكن السؤال المطروح بشدة هو: "كيف يمكن وقف حالة التدهور هاته، وتجنب سيناريوهات التفكك؟، والأكثر من هذا كيف يمكن وقف الجماعات المسلحة، وتحقيق هذه الأهداف؟".