شهدت جلسة "التغيير في السياسة التركية وتأثيراته على المنطقة" والتي نظمتها (الجزيرة تركيا) نقاشاً ساخناً حول السياسة الخارجية التركية من حركة التغيير في دول الربيع العربي لا سيّما في سوريا ومصر، إلى جانب تراجع الدور المؤثر لتركيا في ظلّ التقارب الأميركي - الإيراني الحاصل اليوم، وما يرافقه من توجه تركي لإعادة النظر في استراتيجية سياستها الخارجية ومساعيها لاستعادة دورها كمصدر للتوازن والتقارب السياسي بين الدول العربية وباقي دول المنطقة.
سياسة خارجية.. مرنة
تميزت هذه الجلسة بانقسام رؤى المتحدثين بين مؤيدين لسياسة الحكومة التركية الخارجية برئاسة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وبين معارضين لهذه السياسة، حيث تمحور النقاش حول العلاقات التركية والدول الفاعلة في المنطقة العربية. وتناول المتحدثون العلاقات التركية مع بعض الدول العربية الفاعلة، والدول المؤثرة في المنطقة، وفي مقدمتها العلاقات التركية – القطرية الإيجابية القائمة على مبادئ وأخلاق سياسية متفق عليها، مشيرين إلى أهمية أن تُقابل تلك المساعي من الدول العربية بإيجابية للتخفيف من التوتر الحاصل في المنطقة. واستعرض المتحدثون ما تواجهه الحكومة التركية اليوم من مواجهات سياسية جدية مع محاور إقليمية مثل المحور المصري - السعودي – الإماراتي جراء الأزمة السورية، معتبرين أن تركيا اليوم تواجه تحدياً بالغ الأهمية في ظلّ عدم تحرّك القوى الغربية بشكل جدي لحسم الصراع السياسي في سوريا، ما دفع تركيا إلى المسار الدبلوماسي كحلّ لهذا الصراع ومن هنا اضطرت أنقرة للجوء إلى السبل الدبلوماسية والابتعاد عن الأضرار التي يمكن أن تسببها هذه الأزمة، ومن المتوقع أن تتضمن المرحلة المقبلة سعي تركيا للبحث عن وجهات نظر مشتركة في المسألة السورية، واستخدام استراتيجية أقل حزماً خصوصاً بعد التقارب – الأميركي الإيراني، ووجود مبادرات جديدة في التعاون التركي- الايراني.
كما تطرق المتحدثون في هذه الندوة إلى موقف الحكومة التركية من الانقلاب الذي شهدته مصر، وما سببه ذلك من توتر العلاقة بين تركيا والسعودية والإمارات، ومفاعيل هذا التوتر، ما سيدفع بالحكومة التركية إلى بذل مساع جدية لدرء خطر التوتر بين العلاقات التركية – الخليجية. وفي إطار المساعي التركية لاستعادة نفوذها في المنطقة، أشار المتحدثون إلى اعادة العلاقات التجارية التركية مع العراق بشكل خاص في مجال الطاقة من خلال ارتفاع الواردات النفطية العراقية إلى تركيا. وبالطبع كان للدور الإيراني المتصاعد في المنطقة حصّة لا بأس بها من النقاش، خصوصاً في ظلّ تراجع الدور التركي لصالح الدور الإيراني -بحسب المتحدثين- وذلك مع استمرارية التقارب الإيراني الأميركي وبروز دور طهران في المنطقة بلبنان وسوريا والعراق. أما فيما يتعلق بالعلاقات التركية –الاسرائيلية، فأوضح الخبراء بأن هذه العلاقة تتخذ منحى إيجابياً نحو التطور والانسجام من خلال عودة العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وتركيا، ومن المنتظر أيضاً أن تشهد تطورات إيجابية. كما أن هناك مساعي تركية لتعويض الخسائر السياسية الناجمة عن تأزم العلاقات التركية – العربية بسبب الموقف التركي من الثورات العربية، وهو ما سينعكس في تبنى تركيا لسياسة خارجية عالمية مرنة، ومحاولة المشاركة في أي مشروع سياسي بموازاة تعزيز العلاقات مع المحور الإيراني والخليجي لتحقيق أكبر قدر من الانسجام بين هاتين العلاقتين، لتبقى أنقرة مرتبطة بجميع القوى الإقليمية وتتمكن من مواجهة التحديات المستقبلية.
تركيا.. "نموذجاً للديمقراطية"
فيما يتعلق بالسياسة الداخلية التركية، انقسم المتحدثون أيضاً بين من أثنى على تطور الديمقراطية في البلاد وبين من أكد على تراجع الديمقراطية، وكان لكّل من المتحدثين معاييره التي على أساسها حاول تقييم التجربة الديمقراطية التركية، ففيما رأى أنصار الديمقراطية التركية أن مؤشر الديمقراطية في البلاد ارتفع مقارنة بالسنوات العشر الأخيرة مع انفتاح الحكومة على اللاعبين المؤثرين في صناعة القرار السياسي من أحزاب وإعلاميين، بالإضافة إلى تراجع نفوذ العسكر وتقلص دورهم بالتدخل في الشؤون السياسة. هذا وأثنى المؤيدون لـتطور "الديمقراطية التركية" على تعامل الحكومة مع القضية الكردية في الآونة الأخيرة، حيث بات بمقدور هذا المكون مناقشة قضاياه وحقوقه في العلن، مع مشاركته أيضاً في الحياة السياسة. من ناحية ثانية، رأى المعارضون أن الديمقراطية التركية تشهد تراجعاً من خلال التحديات التي تواجهها، وفي مقدّمتها ملفات التقسيم، والفساد، ومواجهة السلطات القضائية، والتصادم مع جماعة "فتح الله غولن". واعتبروا أن تركيا لطالما قدمت نفسها نموذجاً مكتملاً للديمقراطية أمام دول الربيع العربي، لكن هذا النموذج بدأ يتراجع حالياً؛ إذ تواجه أنقرة مشاكل على مستوى الصحافة المحلية وعلى مستوى الأحزاب، وكذلك العلاقة بين الدولة والدين، وهي من القضايا الصعبة والشائكة في تركيا اليوم حيث إن مشكلة تأثير الدين على الحكم قد تضاعف في الآونة الأخيرة بما لا يتناسب مع علمانية الدولة التركية.
في الشأن الاقتصادي المحلي، تحدّث المشاركون عن دور الطاقة في رسم السياسية التركية المستقبلية انطلاقا من أهمية الموقع الجغرافي لتركيا، ما يجعلها موقعاً استراتيجياً مميزاً لعبور الأنابيب النفطية بين الدول المصدرة والأخرى الموردة، لافتين إلى الجهود التركية المبذولة في هذا المجال لحجز مكانة على الخارطة النفطية في المنطقة من خلال تكريس أنقرة كشريك رئيسي ليس فقط في المبادلات النفطية، وإنما أيضاً لإعادة رسم مستقبل باهر في إرساء الأمن والاستقرار والتميزّ من جديد كنموذج ديمقراطي لدول الربيع العربي، خصوصاً في ظل ما اعتبره المشاركون تحوّلاً ليس فقط في السياسة التركية الخارجية والداخلية، بل في العالم بأكمله، حيث لم يعد النظام السياسي الحالي قادراً على الاستجابة لمتطلبات الشعوب ولطبيعة التحديات المستقبلية.