قبل بداية الجلسة العامة الأخيرة في ثالث أيام منتدى الجزيرة التاسع، ألقى وضَّاح خنفر، رئيس "منتدى الشرق"، كلمة أبان فيها أنه يقف اليوم في هذا المنتدى الذي يعتبره بيتًا، كما يعتبر الجزيرة وطنًا، وهو يتذكر أولى نسخ هذا المنتدى عام 2006، وهو يخاطب جمعًا من المشاركين من مختلف الجنسيات، وكان الهَمُّ العربي وقتها هو العراق، وهموم التحول في المنطقة، وما أعقب احتلال العراق، وانفجار صراعات طائفية فيها، وتأثيرات كل ذلك.
وقال خنفر في كلمته: "ها هي الأيام تمر، وتسع سنوات طوال زادت فيها هموم الأمة تعمقًا، والانقسام فيها يزيد وضوحًا"، مبيِّنًا أن كلمته ستتطرق لأربع وقفات: الأولى مع المنطقة، والثانية مع العالم اليوم، والثالثة مع الناس في عالمنا العربي، أمَّا الرابعة فهي وقفة أمل مع المستقبل الذي نرجوه لمنطقتنا.
وأضاف: عندما استقلْتُ من إدارة شبكة الجزيرة، كرَّست كل وقتي لمؤسسة انطلقتُ فيها مع مجموعة من الأصدقاء والباحثين في العالم العربي، أسميتُها: "منتدى الشرق"، وهو المصطلح الذي أطلقه الكُتَّاب والمؤرِّخون على المنطقة بعد انهيار الدولة العثمانية، والتي تضم العرب والترك والكُرد والإيرانيين.
وذكر أن هذا المصطلح هو الذي نعمل تحته لأجل صياغة مشروع جديد للمنطقة، والتي تحتاج في أيامنا هذه إلى مزيد من التركيز، لأنها تعيش حالة انتقال جوهري وحقيقي، فإن كان الغرب لم يفعل الشيء الكثير خلال القرن الماضي سوى أنه سكن الواقع، لكنه سكنه على غير أساس، فنراه اليوم يتفجر في حدوده وطوائفه ومذاهبه، في حالة يراها كثيرون حالة من الفوضى، لكني أراها حالة انتقال طبيعي، وتحول يُرجَى تحقيقُه بأقل الدماء والتكاليف.
واعتبر خنفر أن الإقليم يعيش حالة جديدة لتصحيح الأوضاع، ولعل عاصفة الحزم قد بعثت أمرًا جديدًا، مفاده أن نظامًا إقليميًّا جديدًا قيد التشكُّل، مُبديًا اعتقاده بأن هذا بداية الخلاص، وينبغي علينا أن نتمسك به، وأن نحميه ونطوره لمزيد من الاستقرار في المنطقة.
ولفَتَ إلى أن أساس ما يحدث اليوم، أننا انشغلنا في السابق بأنفسنا، بعدما اختلطت الأولويات علينا، ومن ثَمَّ انقضضنا على ذواتنا تنكيلًا وحبسًا وتفجيرًا للواقع، وهذا ما لم ينبغِ أن يكون، لكنه صار.
واستطرد خنفر: إن الإقليم عاش حالة من الفراغ الاستراتيجي، وكنَّا نحن الطرف الأضعف فيه، فالإيرانيون والأتراك لم يعيشوا الأمر نفسه، أما كيانات التجزئة التي عاشها العالم العربي، فقد أدى مختلف أوضاعها المتردية إلى تأزم في المنطقة.
ونبَّه خنفر إلى أن إيران انطلقت في تنفيذ مشروعها التوسعي في المنطقة، موضحًا أنه في هذا السياق، يقصد إيران الدولة، وليس أي اعتبارات دينية أو مذهبية؛ حيث إن الدول تستخدم مختلف الوسائل التي تراها وتوظفها لتحقيق مشاربها وأهدافها.
وعن الظروف التي سمحت لإيران بالانطلاق في تحقيق هذا المشروع، قال خنفر: إن إيران استغلت حالة الفراغ، واستطاعت أن تتمدد في مسامات فارغة في ظل التشظي العربي، لكنها ذهبت أبعد مما تتحمل، واستفزت فينا شيئًا جديدًا لم نكن نأمل فيه، وهو الشعور بسُنِّيتنا، رغم أن أهل السنَّة لا ينبغي أن ينظروا إلى أنفسهم على أنهم مجرد مذهب.
وقال: إن إيران استطاعت أن تصل إلى مرحلة استفزت فينا كوامن الغضب، فانطلقت الحملة المذهبية في واقع صعب، ويبدو لي أن الصراع مع إيران ومواجهة نفوذها، لن يكون صراع شهرين أو سنتين، بل صراعًا على قوانين اللعبة في المنطقة، وعلى شكلها الجديد، وفيه يحاول كل طرف تحقيق أكبر عدد من المكاسب، إلى أن نصل إلى مرحلة، يوقن فيها الجميع بأن مصلحة الشرق هي مصلحة الجميع، وبالتالي لابد من الحوار بشأن مستقبلها.
وشدَّد على أنه يجب علينا أن نحمي أنفسنا من الصراع الديني في معالجة قضايا المنطقة لأن هذا طريق لا يحقق النصر لأي طرف، وإنما علينا بتبني الرؤية السياسية التي تنتهي برؤية تصالحية، فلا يجب خلط الأمرين، وعلى الساسة أن يحذَرُوا السقوط في هذه الهاوية.
حول الدعوات لبناء تحالف سُنِّي في المنطقة
في هذا السياق، قال خنفر: إن هناك دعوات لتأسيس تحالف سني، وقال: "لا أعتقد أن محورًا سُنيًّا يجب أن يتشكَّل فقط لأجل التصدي لإيران، بل يجب أن يكون هذا التحالف درعًا لحماية مصالح المنطقة، وإعادة الاستقرار، وأن نتعاطى مع جميع القضايا وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فلا يجب أن تُنسينا الصراعات هذ القضية المصيرية في حياة الأمة، علمًا بأننا نعيش وضعًا للقضية أفضل من ذي قبل، بفضل الإعلام ووسائل التواصل، والمساندة السياسية الدولية عبر العالم".
وأضاف خنفر: إن القضية السورية يجب أن تبقى أيضًا في طليعة القضايا، والسعي للقضاء على النظام السوري الذي فجَّر المنطقة، دون إغفال العراق الذي يبقى درع الأمة العربية، وبدونه فنحن منكشفون في المنطقة، مضيفًا أفغانستان أيضًا التي يجب تغيير الأوضاع فيها نحو صالح الأمة.
وبخصوص مقوِّمات نجاح هذا التحالف، قال خنفر: إن فرص نجاح هذا المشروع أكبر من أي وقت مضى، والسبب هو أن الواقع الدولي لم يعد كما كان في السابق، فالحديث عن حلف إقليمي يعيد الاستقرار إلى المنطقة، لم يكن ممكنًا من قبل، لأن أميركا ليست كما كانت في السابق، والاتحاد الأوروبي أيضًا تراجع نفوذه، فقد قرَّرت أميركا الانسحاب الجزئي من التحكم في قضايا منطقة الشرق الأوسط.
ونبَّه خنفر إلى حالة مهمة جدًّا تعيشها الولايات المتحدة الأميركية اليوم، وقال: "علينا أن ندرك أن أميركا ليست كما كانت في السابق، بعدما ظللنا نعتقد أن أميركا هي العالم وهي الإرادة السياسية، وبالتالي علينا أن نفرح لأن الانسحاب الأميركي من قضايا المنطقة منحنا فرصتنا لإبرام هذا التحالف، ومواجهة الحقيقة".
وأضاف: "علينا أن نواجه هذه الحقيقة، وأقول للقادة الخليجيين المتوجهين للقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما في كامب ديفيد: إن الإدارة الأميركية تواجه معركة حقيقية في واشنطن، تنبني عليها صورة الرئيس أوباما بسبب الاتفاق النووي الإيراني، الذي خلق الحدث في الصراع بين البيت الأبيض والكونغرس، لأن هناك قانونًا مطروحًا أمام الكونغرس بأن لا يمر أي اتفاق في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني، إلا بموافقة الكونغرس، وقال: "أعتقد أن هذا الاتفاق سيمُرُّ".
ولفت خنفر إلى أن الرئيس أوباما لا هَمَّ له اليوم على مستوى السياسة الخارجية سوى الاتفاق حول الملف النووي الإيراني، وأن لقاء قادة الخليج في كامب ديفيد، ولو أنه مكان مشؤوم كما هو معروف، الهدف منه أن الرئيس أوباما يريد موافقة عربية يذهب بها إلى الجمهوريين والكونغرس ليطمئنهم بها، بأن هناك موافقة منهم على اتفاق نووي إيراني نهائي.
وأشار إلى أن الهدف من الاتفاق ليس قضايا المنطقة ولا الملف النووي، بل وجْهَ أوباما وحمايته من المواجهة مع الكونغرس، وبالتالي لا يجب أن يُعطَى أوباما موافقة مجانية قبل تحقيق هدفه، بل يكون ثمنها العراق وسوريا واليمن، وقال: "قد يقول قائل: إن الأميركان منخرطون في ملف اليمن، ومع عاصفة الحزم، لكنهم في الحقيقة ضدها، يريدون وقفًا لإطلاق النار وبدء الحوار السياسي".
وبشأن الملف السوري، قال خنفر: "إن الأميركان منزعجون من تقدم الثوار إلى دمشق، ويحشدون القوى لوقف تحقيق هذا الهدف، لأنهم يعلمون أن سقوط الأسد سيأتي بآخرين لا ترتضيهم أميركا، وهم بالتالي يطبخون لبقاء الأسد سنة أو سنتين، حتى يصلوا إلى اتفاق نهائي".
أما بخصوص العراق، فالولايات المتحدة تقف وقوفًا كاملًا مع حكومة العبَّادي، التي لم تختلف سياساتها عن سياسة نوري المالكي في ما يتعلق بالواقع السياسي والأمني في العراق، فما شهدته مدينة تكريت من ممارسات لقوات الحشد الشعبي والميليشيات، يكشف جليًّا هذه السياسة، التي مورست فيها أبشع الانتهاكات بحق العراقيين على أساس طائفي.
وتوجَّه خنفر برسالة إلى القادة في الخليج، وقال: "إنْ ذهبنا إلى واشنطن، فيجب أن يكون واضحًا لدينا أنه لابُدَّ من ثمن وتغيير حقيقي في هذه الدول سالفة الذكر جميعها".
وعن الواقع العربي اليوم، قال خنفر: "إننا احتفلنا وانتشينا بالواقع العربي الجديد عندما ثار الشباب العربي، لكن الثورة المضادة انقضت على هذا الواقع، ربما لأننا كنَّا تنقصنا الخبرة".
واستطرد: "إننا اليوم في واقع صعب، لكن ينبغي علينا أن نحتفظ بالمشروع الذي ابتدأ بصيحة شاب في تونس، من أجل الحرية والكرامة، ويجب أن نستمر بنضج ووعي تام بمتغيرات المنطقة والمآلات التي نريدها".
وزاد: "إن مشروع الكرامة في وطننا العربي مستمر وثابت، ومن يعتقد أننا قد هُزِمنا، وعلينا أن ننتظر سنوات، فهذا كلام غير منطقي أو موضوعي، فإذا لم ننتصر فغيرنا أيضًا لن ينتصر".
وقال: "ينبغي أن نقول: إن الأمل مستمر، فهذه المنطقة منذ آلاف السنين كانت محطة للتغيير في العالم أجمع، وثمن التغيير فيها أكبر من أي مكان في الكرة الأرضية، والطريق سيكون طويلًا والصبر إلزامي، ومن لا يقدر فليتنحَّ من الآن".
وقال: "إنه في هذه المنطقة بالذات، تكمن أعلى درجات التعقيد الذي نعيشه، فعندما نتحدث عن الشرق، فنحن نتحدث عن رُوح الشرق، فنحن في مركز الكون، رغم اليأس الذي يتسرب إلى قلوب كثيرين، وعلينا أن نحمي هذا المركز للأجيال القادمة بعد أن نعيشه ونتعاطى معه كما ينبغي باستعداد للتضحية، مع نقد الذات، والخروج بأفكار تؤسِّس لولادة هذا الجديد".
وذكر أننا لسنا في صراع جيوسياسي، بل صراع فكري لاكتشاف ذواتنا، وكما فجَّر فينا الربيع العربي الأمل، فجَّر أيضًا مآسي وعَفَنًا في أفكار بعضنا وتصوراتنا، فكما خرج الشباب للكرامة، خرج أيضًا من يحتفون بقتل الأطفال وذبحهم.
ولفت إلى أننا نعيش حالة بعث جديد لمفاهيم جديدة، ترتقي بنا إلى مستوى جديد، وهو مستوى رُوح الشرق، الذي لا تحمله أرواح تائهة ومترددة، بل شباب وأمة مؤمنة برُوح الفتح وليس الذبح، وبرُوح الرسول الكريم محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وبالتالي لا ينبغي أن نيأس، ولا نختار الانتحار بدل الكرامة، فالله تعالى خلقنا لنعمر الأرض وليس المقابر، ولأجل الحياة وصناعة الأمة، فهذه هي ثقافة الشرق، الذي لن يستقر إلا إذا استقرَّ لنا جميعًا، لأن خلاصنا فيه جميعًا.