تحدَّث في هذه الجلسة كل من: خوان كول: أستاذ كرسي ريتشارد ميتشل الجامعي للتاريخ بجامعة ميتشغان، ولينا الخطيب: مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط، وهيمن هورامي: رئيس مكتب العلاقات الخارجية بالحزب الديمقراطي الكردستاني، ومها عزام: رئيس المجلس الثوري المصري، وعبد الوهاب الأفندي: باحث في الشأن السياسي بمركز دراسات الديمقراطية بجامعة وستمنستر.
تطرَّق الأستاذ خوان كول إلى جذور الأزمة في المنطقة وأسباب الصراع التي لها علاقة بالتغير المناخي كالجفاف والقحط، وأشار كمثال إلى محافظة الرِّقَّة بسوريا التي هلك فيها 90% من الثروة الحيوانية بالمحافظة كما تلاشت المزارع تحت وطأة الجفاف وغياب المياه، ولم يتمكَّن المزارعون من حصد أي محصول مما اضطرهم للنزوح نحو المدن للبحث عن العمل فيها، وعندما لم يجدوا العمل تحولوا إلى فئات متذمرة. ولو نظرنا مثلًا إلى بداية المظاهرات في سوريا عام 2011 كانت المناطق التي بدأت المظاهرات تنتمي إلى المدن التي تعتمد على الزراعة، وكانت مطالب المتظاهرين معيشية واجتماعية، وكذلك كانت حال المظاهرات الأوَّلية في العراق ومصر فقد كانت ترفع شعارات الكرامة والتعلق بالعيش الكريم، ونحن هنا لا ننسى الخلاف بين بعض الدول ونزاعها حول الموارد المائية مثل نهر الفرات الذي يشكِّل بؤرة نزاع بين تركيا والعراق مثلًا، لكن تلك السياسات المائية الخاصة بالدول لا تعنينا هنا.
استطاع بعض الدول العربية بعد حصوله على الاستقلال أن يقدِّم خدمات لمواطنيه كما استطاع تحسين الواقع المعيشي للمواطن؛ ففي عهد جمال عبد الناصر مثلًا تمكَّنت الدولة من وضع خطط ترفع من دخل الفرد، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تعرَّضت الدول العربية لضغوط من أميركا للأخذ بالليبرالية الاقتصادية وحرية التجارة ومشاركة المجتمع في وضع خطط برامج التربية والسياسات الاقتصادية، وبعدها رأينا دولًا عربية مثل تونس أخذت بمبادئ النظام الليبرالي وطبَّقتها على أنظمتها الاقتصادية والتجارية، ومن هنا ارتفع دخل المواطن بعد أن أصبحت المصانع في يد المجتمع، على عكس الحال عندما كانت المصانع بيد الدولة.
ومع مرور الوقت تحوَّل الصراع حول القضايا الاجتماعية إلى صراع طائفي وإلى خلاف حول الهوية، وهو ما نرى تمثلاته في الحالة اليمنية والحالة السورية.
وكان تدخُّل الأستاذة لينا الخطيب، مديرة مركز كارنيغي في الشرق الأوسط، حول عدة قضايا من أبرزها المشكل الطائفي الذي يشكِّل جزءًا مهمًّا من المشكِل في العالم العربي وليس هو أصل المشكلة؛ حيث إن بعض الدول قام بتأسيس كيانات على أساس طائفي بل على الهوية الطائفية وقد قُنِّن ذلك دستوريًّا وأصبحت الطائفية تهيمن على الدولة وتتغلغل في جسم الحكومة، وقد طُبِّق هذا التصور على العراق، وربما مستقبلًا سيُطبَّق على سوريا، لكن هذه الرؤية السياسية ستُطيل الأزمة وتعمِّق الهوة بين مكونات المجتمع ويصعب حلُّها لاحقًا.
في العراق استفاد تنظيم داعش من مظالم الطائفة السنِّية التي تعرضت للتهميش والتنكيل والظلم في عهد حكومة المالكي، ووجد تنظيم داعش تعاطفًا من المجتمع السنِّي؛ لذلك أصبح تكريس الطائفية يخدم داعش كما يخدم نظام الأسد في سوريا. ولعل الحل يكمن في الابتعاد عن التمثيل السياسي على أساس طائفي، بل يجب أن يقوم التمثيل السياسي على أساس وطني يجد جميع الأطراف أنفسهم ممثَّلين وفق المكونات الأساسية لهذا البلد، وربما كان المسار الدستوري القائم على نظام الفيدرالية أو الحكومة اللامركزية مثلًا عنصرًا مساعدًا في حلِّ النزاعات.
أمَّا هيمن هورامي، رئيس مكتب العلاقات الخارجية بالحزب الديمقراطي الكردستاني، فقد تطرَّق للحالة الكردية مشيرًا إلى أن الهجوم الكيماوي الذي تعرَّض له الأكراد في عهد الرئيس السابق صدام حسين قد ولَّد الشعور بالثأر، كما غيَّب الهوية العراقية الوطنية، وأصبح الكل يتحدث عن الهوية الشيعية أو السنِّية أو الكردية.
وفي ظلِّ حكم الدولة الفاشلة، وغياب دخل معيشي للمواطن فإن الصراع قد تحول إلى صراع فوضوي يتجاوز الحدود، وما يحدث في العراق خاصة من توسع وسيطرة لتنظيم داعش ما هو إلا إحدى نتائج الدولة الفاشلة.
ولو نظرنا إلى عدد الميليشيات في بغداد فإننا سنطرح على أنفسنا سؤالًا جوهريًّا، هو: من الذي يحكم بغداد؟ ومن يتحكم في السلاح؟
في كردستان مثلًا، فقد أفراد من قوات البيشمركة حياتهم لاستعادة مدن عراقية من أيدي تنظيم داعش، وما نراه الآن من استقطاب إنما هو حالة ذات علاقة بالأحداث الداخلية والخارجية معًا، ويشتعل هذا الصراع الموجود بالعراق بين المكوِّنات العِرقية بل إنه يتحول شيئًا فشيئًا إلى انتقام متبادل بين مكونات المجتمع على أساس طائفي.
ويرى هيمن هورامي أن ما قامت به البيشمركة من إيقاف لتنظيم داعش وهزيمته في بعض الموقع قد حال دون سقوط سوريا والعراق في أيدي التنظيم. وشدَّد هيمن هورامي على ضرورة الاعتراف بالأخطاء، ووضع صيغة جديدة للعيش بشكل ديمقراطي فيما بين الشعوب، لأن المنطقة مقبلة على تغيرات كبرى ولا يُعرَف ما الذي ستؤول إليه.
وترى مها عزام، رئيسة المجلس الثوري المصري، أن أسباب الصراع في المنطقة تعود إلى حقبة طويلة من الزمن ظهرت قبل الاستقلال حيث بدأ الصراع من أجل الكفاح للحريات وحقوق المواطنين، وكانت في أولى مراحله محاربة الاستعمار، وقد فشلت هذه الدول بعد حصولها على الاستقلال في تحقيق مطالب شعوبها، وانتظر المواطنون عقودًا طويلة لتنفيذ وعود قادتها، لكن هذه الشعوب خُذِلت وأصبحت آمالها سرابًا، وهو ما أدى إلى تعبير الشعوب عن رفضها وتذمرها عبر مظاهرات.
وبعد الحرب العالمية الثانية، جرى الحديث عن مبادئ الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، لكنها ظلَّت تُستخدم وفق معايير مزدوجة، لأن هذه الحقوق لم تُعطَ لشعوب المنطقة، بل أصبح تزوير الانتخابات والاستبداد هما السائدين. عانت فئات كبيرة من المجتمع بسبب هذه السياسات، وخرجت المظاهرات إلى الشوارع للحفاظ على حقوق المواطن ورفع النداء بتحقيق قيم العدالة، وهو ما أسهم في تأجيج الصراع. وما يطبِّقه نظام الأسد من أحادية واستبداد موجود في مصر، وهو ما تولَّد عنه الإرهاب والتطرف.
على المجتمع الدولي وعلى القوى الاقليمية أن تعيد حساباتها في المنطقة، وتنظر كيف تتجلَّى الأوضاع وتتغير الأحوال، مع ضرورة وضع خطط إصلاحية وخلق بدائل، لأنه لا يمكن إعادة الساعة إلى الوراء.
إن القمع الذي يمارسه بعض أنظمة المنطقة وانعدام الاحترام وغياب حرية التعبير وإطلاق النار على المتظاهرين ولَّد ضغوطًا وووجَّه إهانة للشعب، وأصبح الجميع يسير إلى منحدر منزلق تُسفك فيه الدماء وتداس الحريات، ولأن هذه المجتمعات مستعدة للتضحية وللتغيير كغيرها من شعوب العالم، فإنها ستبقى مطالبة بالتغيير ولو بموجات متتالية. وما دامت الأسرة الدولية تستمع إلى فئة قليلة جدًّا، وهي فئة الحكام ولوبيات المصالح، فإن المعادلة على الأرض لن تتغير، ولا يمكن أن يحدث تغيير في المنطقة خاصة سوريا أو مصر.
أشار المتحدث الأخير الدكتور عبد الأفندي، الباحث في الشأن السياسي بمركز دراسات الديمقراطية بجامعة وستمنستر، إلى أن المنطقة تشهد هذه الأيام صراعًا لم يحدث مثله من حيث الحجم والوحشية، وقد أبرز هذا الصراع حالة غريبة وهي "قابلية الاستعمار" التي تحدَّث عنها سابقًا مالك بن نبي؛ فالمنطقة الآن أصبحت جاذبة للاستعمار، ووصلت الأمور إلى حدِّ أنه كلَّما حدث خلاف بين أطراف محلية انتهى الأمر بالمطالبة بالتدخل الأجنبي عبر المؤسسات الدولية. يضاف إلى هذا أن العرب لا يُغيِّبون حجم معاناتهم ويتسترون مثلًا على عدد القتلى أو المصابين، وإنما يذهب بعضهم إلى تبرير القتل من أجل موقف سياسي معين.
وهنا لابد من التفكير في وضع خطط لعلاج هذه الأزمة لأن الصراع الذي يحدث يُنسي الهوية الوطنية؛ فما حصل في العراق من إعلاء للطائفية وتغييب لمفهوم الانتماء لوطن واحد يُعدُّ تجليًا للأزمة الناتجة عن الصراعات في الوطن العربي، فهذه الأزمة تكشف غالبًا عن غياب خطاب الوحدة وتماسك المجتمع، مع بروز خطاب الإقصاء وتهميش الطرف الآخر، والأنكى والأخطر أن بعض المفكِّرين بدوْا وكأنهم لا يرون أية أزمة فيما يحدث من بلدانهم من قتل أو تشريد، بل يبرِّرون ما حدث ويحدث بأنه خطوة ضرورية للوقاية من كوارث أخرى.
إن الخطاب السائد أصبح جزءًا كبيرًا من المشكلة، وقد فشلت القيادات والنخب في وضع نموذج يُقتدَى به، فعلينا أن نصبح نموذجًا للقيادة الأخلاقية التي تضحِّي بالمنصب والمكانة من أجل الحفاظ على القيم والمبادئ مثل ما رأينا في الصباح مع السيدة البارونة وارسي الوزيرة البريطانية التي ضحت بمنصبها للدفاع عن قضية فلسطين.
وقد شُفِعت الجلسة بنقاشات وردود ركَّزت كلها على مآلات الصراع الكارثية، وعلى أطرافه الداخلية وتفاعلها بالأطراف الخارجية فضلًا عن التفكير في ضرورة الخروج بالعالم العربي من هذا الوضع الكارثي.