خلال جلسة دور الإعلام في الصراعات التي أدارها المذيع بقناة الجزيرة محمود مراد، تحدث ياسر أبو هلالة، مدير قناة الجزيرة الإخبارية عن إشكالية: إلى أي حدٍّ يمكن للتحديات المهنية أن تؤثِّر في احترافية تغطية الصراعات؟ وقال أبو هلالة: إن أحد أسباب نجاح تجربة الجزيرة أنها نقلت الكاميرات إلى الميادين، بعد أن كانت مقصورة على المطارات والصالونات.
ولفت إلى أن التغطية الميدانية تحتمل تحديات كبيرة، وليس سهلًا أن تؤرِّخ على الهواء، ما دام الإعلام هو التأريخ الأول للحظات، مستشهدًا بآخر قصة واجهت القناة، لحظة وصول قوة عربية إلى مطار عدن، وكان حينها مراسل الجزيرة هو الوحيد عبر العالم الموجود بالمكان، وحيث لا يوجد صحفي غيره، فواجَهَ تحديًا ومسؤولية كبيرة حول التحقق من الأخبار في تلك الدقائق المعدودات، وحيث لا ينتظر المشاهد لمعرفة الحقيقة.
وأوضح أبو هلالة أن مسؤولية الإعلام تزداد في أماكن الصراعات، تمامًا مثلما حدث في بلدان الربيع العربي؛ حيث كان فريق الجزيرة في لحظات معينة الوحيد في ميدان التحرير بمصر، متسائلًا: هل معنى تغطيتنا لتلك الأحداث أنَّنا كنَّا نناصر الثورة المصرية، أو نُسهِم في الصراع بمصر، أو قَتْل من قُتِل في الميدان؟ وأشار إلى أن مسؤولية الإعلام في كتابة اللحظات الأولى لتاريخ الأحداث تجعل الإعلام طرفًا؛ فالمناضل الموجود بميدان التحرير مثلًا يتحمَّس أكثر ويظل في الميدان ما دامت أضواء الكاميرات هناك.
وأقرَّ أبو هلالة أنَّ "هناك من اتَّهم الجزيرة بأنها صنعت الثورات، والبعض اعتبرها مفخرة. تمامًا كما كان الشاه في ثورة إيران يقول: إن الإعلام تآمر ضدَّه"، معقِّبًا بالقول: "دور الإعلام في ساحات الصراع دور أساسي، ويُترَك للمؤرِّخين القول إن كان إيجابيًّا أو سلبيًّا".
ولدى تطرُّقه للإعلام الاجتماعي وتأثيره في مناطق الصراعات، أسوة بما حدث في ثورات الربيع العربي، قال أبو هلالة: إن منصات التواصل الاجتماعي كانت مصدرًا موثوقًا بالنسبة إلينا أثناء الثورات، والآن هناك وسائل للتحقق من أخبارها. وفي سوريا كانت نموذجًا عالميًّا، لأنها أكثر حدث أُرِّخت أحداثه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحيث أُبعِد الإعلام، سواء كان قنوات تليفزيونية أو قنوات إعلام، مما كانت لا تناسب الأنظمة حينها.
ولفت إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي، والصورة التقنية جعلت من المستحيل إخفاء الحقائق؛ فكُنَّا نتعلم من السوريين تقنيات البثِّ عن طريق الإنترنت، والتحايل على الرقابة. وفي مصر حيث أُغلق مكتبنا، كان لدينا نقطة بثِّ في كل الجمعات؛ حيث لم يتوفر لأية قناة في العالم، بفضل موبايلات الناشطين.
وتابع قائلًا: الإعلام في النهاية هو فضاء عام، وكل واحد يقول ما يشاء، وفي الثورة السورية واجهنا إشكالية أخلاقية، حيث كان حجم الترويع لا يُحتمل، مثل ما حدث للشهيد حمزة الخطيب، فالسؤال: هل من الناحية الأخلاقيَّة، واجبك أن تنشر الصورة أو تخفيها أم تتحفظ؟ وبعد سنوات أصبحت المشاهد المروِّعة من كل الأطراف، وليست حكرًا على النظام فقط، وحينما يصلنا فيديو حول إحراق الطيار الأردني مثلًا، نواجه تحدي: كيف نبثُّه؟ وهل نبثُّه أم لا؟
وخلص للقول: نحن نعيش مرحلة صراع في العالم العربي، مرَّت بها كل شعوب العالم، ومن سوء حظنا أننا كإعلاميين نوثِّق هزائم وكوارث، ولا نوثِّق إنجازات وانتصارات. كُنَّا قبل الثورات نعيش استقرار القبور، ونعرف الحاكم ومن يخلُفه، وهناك استئثار كامل بالسلطة، وكبتٌ تامٌّ للمجتمع، وانتقلنا الآن من مرحلة استقرار القبور إلى مرحلة الحياة، حيث الاستقرار الذي يتجدد، والديمقراطية والوصول إلى تداول السلطة ليس قرارًا يتخذه حكَّام أو حزب، بل يتطور. وختم مدير قناة الجزيرة بالقول: "الإعلام لا يتنافس على سلطة، بل هو فضاء يمنح متسعًا للمنتصر والمهزوم، لكننا لا نشهد حوارًا في دول الربيع العربي، بل صراعًا".
من جانبها، تحدثت نادية السقاف، وزيرة الإعلام اليمنية، في مداخلتها عن إشكالية: ماذا تَغيَّر في تغطية طبيعة الصراعات بين الإعلام التقليدي والحديث؟ وفضَّلت السقاف الحديث من منطلق تجربة عملية، عندما انتقلت من العمل بالجهة الخاصة إلى الجهة الحكومية: "كان قرارًا صعبًا، وكنت أقول للحكومة: افعلي ولا تفعلي، ولكن النَّقلة منحتني القدرة على الجمع بين الأمرين".
وتابعت: "من وجهة نظر حكومية، كان هناك ارتباط بين الإعلام الحكومي والاجتماعي، فحينما حدث الانقلاب، ومن موقعي لوصول المعلومة للمواطنين، اتصلت بالمذيعين ومدراء القنوات ووكالات الأنباء؛ حيث كان إطلاق النار في الشوارع وهناك عنف كبير، وكان الرد: لا نستطيع القيام بشيء، لأن الحوثيين المسلحين معنا بالاستديو ببنادقهم، يفرضون نشر ما يريدون من أخبار، فأصبحت وزيرة بلا سلطة بسبب الانقلاب المسلح، والإعلام الرسمي، فلجأت إلى تويتر، وأرسلت بالعربية والإنجليزية تداعيات الأحداث، فحصل لديَّ انفصام شخصي، كيف أنني وزيرة ومع ذلك لم أستطع الاستفادة من القنوات الحكومية؟!
وبيَّنت الوزيرة أن الاستجابة كانت "رهيبة" لندائها عبر تويتر، وزاد عدد المتابعين من 5 آلاف إلى 25 ألفًا، وأصبح إعلام العالم كله بين يديَّ. وبالمقابل، أُنشئت حسابات وهمية باسمي في منصات التواصل الاجتماعي. وأوضحت تقول: حينما يحصل صراع على سلطة، يكون الإعلام أول سلطة من حيث الترتيب وأحيانًا الثانية بعد الجيش، كما الحال في اليمن، بسبب قدرة الإعلام على غسيل المخ وتوجيه الرأي العام بصورة عامة.
وعن الإعلام الإلكتروني، قالت: إنه سلاح ذو حدَّيْن، ولكن لن يأتي يوم وتنتهي الإذاعات والفضائيات، بل سيكون هناك التأقلم وتتحور لتكون متفاعلة. وخلصت للقول: "هناك حرب وجود بين الإعلام التقليدي والإلكتروني، ولكنني شخصيًّا أميل لتجربة التعاون والتعايش بينهما، وليس شرطًا أن يزول أحدهما لفائدة الآخر".
بدورها، تحدثت رزان غزاوي، منسقة برامج بمعهد صحافة الحرب والسلام، عن إشكالية: رصد إعلام الثورة السورية، والمحاذير من وراء توظيف الجماعات المسلحة لوسائل الإعلام. رزان التي أكدت أنها ناشطة ومدونة وعاشقة للإعلام البديل، وليست حقوقية أو صحفية، قالت: إن استخدام الجماعات المسلحة للإعلام التقليدي والبديل، هو بهدف الإخبار حول مدى تأثيرهم على الأرض، والتعبير عن سياستهم، وتصورهم لدورهم. وأيضًا لأجل جلب مناصرين لهم، مهما اختلفت أيديولوجيتهم الفكرية.
وتساءلت رزان: كيف يمكن أن تحتكر الجماعات المسلحة صوت الناس، مثلما يفعل جيش الإسلام في مناطق بسوريا، حيث له صحيفة ومكتب ومراسلون، ويستخدمها لتمرير رسائله، وتصوير الحقائق والأحداث بما يناسبه؟ وردَّت بالقول: في الواقع، الإعلام عندما يُوظَّف من جماعات مسلحة، يمكن أن يستخدمه لخدمة صورته، وخاصة حينما يكون الإعلام بيد قوة عسكرية أو جماعة مسلحة. وختمت تقول: الإعلام التقليدي اليوم يغطي العسكرة، والإعلام هو الذي يحدد الحدث الأبرز لأنه سلطة.
على الجانب الآخر، تحدث إيان بلاك، محرر الشرق الأوسط بصحيفة الغارديان، عن تجربته المختلفة عن تغطية الإعلام العربي لبعض الأحداث التي تعرفها المنطقة العربية، واستهل بالحديث عن التحديات التي تواجهها وسائل الإعلام في الالتزام بالمعايير المهنية والموضوعية، أمام الضغوطات المختلفة التي يواجهها الصحافيون في مناطق النزاعات.
وقال إيان: إن فكرة استخدام ناقلي الأخبار مفهوم له طابع خاص، وهم يضيفون رؤيتهم وقراراتهم بالأحداث، فليس هناك موضوعية كاملة، فهناك حكومات لها ضغوطاتها، والصحافيون بشر لهم إحساسهم، وآراؤهم دومًا، وهناك أسئلة تتعلق بمرافقة الصحافيين للجيوش.
وأكَّد أن أفضل طريقة لضمان المعايير المهنية في نطاق الصراعات أن نُبقِي على فرق واضح قدر الإمكان بين ثلاثة أنواع من النشاطات الصحفية، ونفرِّق التقارير من التعليق والتحليل. وشدَّد على أن التقارير هي الأساس والقاعدة لكل ما نقوم به، فدورنا نحن الإعلاميين والصحافيين أن نغطي النزاعات، دون تبنِّي وجهة نظر على حساب آخر، لافتًا إلى أن الاقتباسات هي مصدر المعلومات، لكن لابد من التثبت منها قدر الإمكان.
وأقَرَّ إيان بأن الحياد معيار يصعب المحافظة عليه حينما تكونه الظروف يطبعها الاستقطاب، مثل الصراع الفلسطيني مثلًا، لكنَّه أكَّد أن الإعلام يجب أن لا يكون محكومًا بالثنائيات، أن تكون مع هذا الطرف أو ذلك، بل يتم التركيز على الأشخاص أكثر من السياسيين، وأن مسؤولية الإعلام هي صياغة الأخبار بأكبر دقة ممكنة، ومساعدة المستمعين على تلقي الأخبار، والاهتمام بوصول الناس لأخبارنا وأن نهتم بتعليقاتهم.
وعن الجدل الحاصل حول تغطيات وسائل الإعلام العربية والغربية للأحداث الساخنة، واتهامها بعدم الحياد، قال: الأخبار بطبيعتها تشمل الجديد، وأعتقد أن التوجهات الجديدة لابد أن نفحصها خاصة في تغطيات الصراعات. الإعلام الغربي كان مدلَّلًا، لأنه ركَّز في جانب كبير على البعد الأمني المحلي، لهوسه بالشباب المسلمين الذين يخوضون الجهاد في سوريا، أكثر من اهتمامه بأسباب الأحداث في سوريا.
واعتبر أنه من الجيد أن نهتم اليوم بالقضية الطائفية في العراق، لكن علينا أن نضعها في سياقها، والمنظمات الإعلامية عليها أن تتجنَّب أن تكون مطيَّة للدعاية. أمَّا عن العالم الرقمي، فقال: إنه لا يمكن أن نتصور التغطية الإعلامية دون الإعلام الاجتماعي، لكن التكنولوجيا لديها حدودها أيضًا، ولا يمكن أن تكون بديلًا عن الأدوات الصحفية الأخرى، لأنه علينا أن نثبت الأحداث بالأدوات التقليدية في الميدان.
وخلص قائلًا: "الكثير من المسؤولين يحاولون أن يقيدوا حركة الصحافيين إلى مناطق النزاعات، وأحيانًا يستخدمون أدوات مثل الجهات القانونية، لكن وسائل الإعلام يجب أن تقاوم ذلك". هذا، وقد شهدت الجلسة النقاشية أسئلة كثيرة، تركزت بشكل أساسي على قناة الجزيرة وتغطيتها لثورات الربيع العربي، والأزمة السورية بدرجة خاصة؛ حيث قال ياسر أبو هلالة في رده على أحد الأسئلة: ليس صحيحًا أن داعش تستهوينا، ولا وجود لبرومو للدولة الإسلامية في الجزيرة، ونحن غطَّينا الثورة السورية قبل ظهور الدولة الإسلامية، لكن لا يمكن تجاهل خطابات الأسد وكل قادة الأسد؛ لأن الإعلام ليس ناشطًا ثوريًّا أو ناطقًا باسم النظام. والأكيد موقفنا مع قاتل حمزة الخطيب، لأن هناك قضايا لا يجوز الحياد فيها.
وعن مصداقية الأخبار التي ترد من شهود العيان ووسائل الإعلام الاجتماعي، قال: "التحقق من الأخبار يحتاج لدورات طويلة، ولكن منذ ظهور الإنترنت لم نقع في أخطاء بسبب عدم الدقة". وأضاف عن الانتقادات التي تطول الجزيرة، وعلى الطرف الآخر من يدعم مهنيتها: "إرضاء الناس غاية لا تُدرَك. نحن لسنا قناة سورية أو مصرية أو يمنية، ولا أستطيع أن أفتح القناة على مدار 24 ساعة"، مضيفًا: "نحن حُسِبنا على طرف، وفي الحرب العالمية الثانية، لم يكن الإعلام الغربي على مسافة واحدة مع النازيين أو ضدهم".