لم يشهد الشرق الأوسط عموما ومنطقة المشرق العربي تحديدا مثل هذا التدافع للقوى، ولا حالة انهيار لسيطرة الدول الوطنية وتداعي النظام الإقليمي، منذ عقود طويلة، ولا حتى أثناء سنوات الحرب الباردة. فسماء العراق وسورية تزدحم بالطائرات الأوروبية والأميركية والروسية. وتنتشر مجموعات من القوات الخاصة التابعة لدول غربية وإقليمية في قواعد عسكرية ومناطق مختلفة من البلدين. وتدور حرب طاحنة في اليمن، مستمرة منذ أكثر من عام.

فقدت الدولة العراقية، دولة ما بعد الغزو والاحتلال الأجنبيين، السيطرة على مناطق واسعة من أرضها. وتراجعت سيطرة نظام الأسد على البلاد بوتيرة متسارعة منذ اندلاع الثورة السورية. وبالرغم من الهدوء الحذر في الوضع اللبناني، أصبحت الدولة اللبنانية منذ سنوات أسيرة لميليشا مسلحة، تفوق في قدراتها العسكرية قدرات الجيش اللبناني.

إلى جانب عودة المواجهة بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الإسرائيلي إلى وضعها المعتاد، يقف الأردن في حالة من الارتباك جراء التطورات في جواره السوري والعراقي والفلسطيني. ويواجه اليمن وشعبه صراعاً محتدماً بين نظام الحكم الشرعي وميليشيا طائفية، مدعومة من دولة إقليمية. في هذا السياق الإقليمي المتحرك، لم يعد للحدود بين دول المشرق نفس المعنى الذي مثلته طوال ما يقارب القرن من الزمان، بعد أن تحولت إلى ممرات للمقاتلين من أجل الحرية، والجماعات الإرهابية، ومئات الآلاف من اللاجئين المنتشرين في كل الاتجاهات.

يستدعي هذا التأزم الهائل في مؤسسة الدولة، وفي نظام المشرق الإقليمي، الذكرى المئوية لتوقيع اتفاقية سايكس – بيكو، التي وضعت المسودة الأولى لنظام ما بعد الحرب الأولى الإقليمي في الشرق الأوسط. ولكن، وبخلاف حقبة الحرب العالمية الأولى، عندما قرر مصير المنطقة وشعوبها في غرف التداول الغربية، يتحول المسرح الإقليمي المشرقي اليوم إلى ساحة تدافع هائل لقوى دولية وأخرى إقليمية ولاعبين من غير الدول.

لم يكن شيء من هذا التأزم في مصائر الدولة والشعوب والنظام الإقليمي المشرقي قد برز إلى السطح قبل اندلاع الثورات العربية في 2011. إحدى وجهات النظر تقول إن الثورات العربية مثلت كارثة كبرى على دول المشرق وشعوبه، وأنها أدت إلى توليد الفوضى وانحدار قوة مراكز الحكم. ولكن الحقيقة أن كل الثورات العربية بدأت سلمية تماماً، وكلها حملت مطالب مشروعة تماماً، من وضع نهاية لسيطرة الأقليات الحاكمة وهيمنتها على مقاليد القوة والثروة، إلى إعلاء الكرامة الإنسانية، إلى بناء حكم ديمقراطي يستجيب لإرادة الأغلبية. ولكن حركة الثورة العربية سرعان ما واجهت تياراً هائلاً للثورة المضادة، قادته الأقليات الحاكمة، وقوى إقليمية، وطبقات من الإعلاميين ورجال الأعمال. لم ينجم عن الصدام بين جماهير الثورة العربية وقوى الثورة المضادة اندلاع واسع للعنف وحسب، بل إن قوى الثورة المضادة حرصت على تفجير العنف ونشر الموت والدمار. ولم يؤد الانقلاب على مسارات التغيير والانتقال إلى الديمقراطية إلى انسداد الأفق أمام طموحات الملايين وآمالها وحسب، بل وأفسح المجال لتصاعد العنف العدمي وتوالد الجماعات الإرهابية.

اليوم، وفي خضم فوضى فلكية الأبعاد من الموت والحرب الأهلية والدمار، يبدو غياب تصور للمستقبل وخلاص المنطقة وشعوبها وكأنه اليقين الوحيد. ثمة قوى دولية وإقليمية تنشط في المشرق من أجل مكافحة الإرهاب، وأخرى من أجل دعم أنظمة مستبدة وقمعية؛ قوى تؤيد الشعوب وأخرى تشارك في قمعها. ولكن الملاحظ، سيما على المستوى الدولي، أن خطاب الديمقراطية والحريات يتراجع لصالح خطاب الأمن والدفاع ومحاربة الإرهاب. أما على المستوى الإقليمي، فقد ولد تدافع القوى تداعياً غير مسبوق في علاقات الجماعات الإثنية والثقافية والطائفية. الأخطر في كل هذا، وما يهدد باستمرار الفوضى وغياب الاستقرار لأمد طويل، أن جهة لا تريد أن ترى أن نظام ما بعد الحرب الأولى الإقليمي فقد شرعيته ومقومات وجوده.

لماذا شهد المشرق هذا التدهور السريع في استقرار دوله وفي نظامه الإقليمي؟ ما هي الأسباب والخلفيات التي أدت إلى هذا التدافع الدولي المتصاعد في المجال المشرقي؟ ولماذا أخفقت القوى الإقليمية في الاتفاق على تصور إجماعي لمستقبل المنطقة وشعوبها؟ وهل لم يزل هناك من أمل في عودة هذه المنطقة من العالم إلى مسار تغيير سلمي وديمقراطي؟
هذه، ومسائل أخرى وثيقة الصلة، ستكون موضوع الاهتمام في منتدى الجزيرة العاشر، في مارس 2016.

الجلسات العامة

  1. التدافع الإقليمي وتداعياته الطائفية والسياسية والجيوسياسية
  2. التدافع الدولي على الشرق الأوسط بعد مائة عام على سايكس – بيكو
  3.  إلى أين يتجه الشرق الأوسط في ظل أوضاعه الراهنة؟